فصل: شهر صفر الخير سنة 1227:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» (نسخة منقحة)



.سنة سبع وعشرين ومائتين وألف:

وما تجدد بها من الحوادث.

.شهر المحرم سنة 1227:

فكان ابتداء المحرم بالرؤية يوم الخميس في عاشره:
وصل كثير من كبار العسكر الذين تخلفوا بالمويلح فحضر منهم حسين بك دالي باشا وغيره فوصلوا إلى قبة النصر جهة العادلية ودخلت عساكرهم المدينة شيئاً فشيئاً وهم في أسوأ حال من الجوع وتغير الألوان وكآبة المنظر والسجن ودوابهم وجمالهم في غاية العي ويدخلون إلى المدينة في كل يوم، ثم دخل أكابرهم إلى بيوتهم وقد سخط عليهم الباشا ومنع أن لا يأتيه منهم أحد ولا يراه وكأنهم كانوا قادرين على النصرة والغلبة وفرطوا في ذلك ويلومهم على الانهزام والرجوع وطفقوا يتهم بعضهم البعض في الانهزام فتقول الخيالة سبب هزيمتنا القرابة وتقول القرابة بالعكس ولقد قال لي بعض أكابرهم من الذين يدعون الصلاح والتورع أين لنا بالنصر وأكثر عساكرنا على غير الملة وفيهم من لا يتدين بدين ولا ينتحل مذهباً وصحبتنا صناديق المكسرات ولا يسمع في عرضينا أذان ولا تقام به فريضة ولا يخطر في بالهم ولا خاطرهم شعائر الدين والقوم إذا دخل الوقت أذن المؤذنون وينتظمون صفوفاً خلف إمام واحد بخشوع وخضوع وإذا حان وقت الصلاة والرحب قائمة أذن المؤذن وصلوا صلاة الخوف فتتقدم طائفة للحرب وتتأخر الأخرى للصلاة وعسكرنا يتعجبون هلموا إلى حرب المشركين المحلقين الذقون المستبيحين الزنا واللواط الشاربين الخمور التاركين للصلاة الآكلين الربا القاتلين الأنفس المستحلين المحرمات وكشفوا عن كثير من قتلى العسكر فوجدوهم غلفاً غير مختونين ولما وصلوا بدراً واستولوا عليها وعلى القرى والخيوف وبها خيار الناس وبها أهل العلم والصلحاء نهبوهم وأخذوا نسائهم وبناتهم وأولادهم وكتبهم فكانوا يفعلون فيهم ويبيعونهم من بعضهم لبعض ويقولون هؤلاء الكفار الخوارج حتى اتفق أن بعض أهل بدر الصلحاء طلب من بعض العسكر زوجته فقال له حتى تبيت معي هذه الليلة وأعطيها لك في الغد.
وفيه خرج العسكر المجرد إلى السويس وكبيرهم بونابارته الخازندار ليذهب لمحافظة الينبع صحبة طوسون باشا.
وفيه وصل جماعة من الإنكليز وصحبتهم هدية إلى الباشا وفيها طيور ببغا هندية خضر الألوان وملونة وريالات فرانسة ونقود معبأة في براميل وحديد وآلات ومجيئهم وحضورهم في طلب أخذ الغلال وفي كل يوم تساق المراكب المشحونة بالغلال إلى بحري، وكلما وردت مراكب سيرت إلى بحري حتى شحت الغلال وغلا سعرها وارتفعت من السواحل والرقع ولا يكاد يباع إلا ما دون الويبة وكان سعر الأردب من أربعمائة نصف إلى ألف ومائتين والفول كذلك وربما كان سعره أزيد من القمح لقلته فإنه هاف زرعه في هذه السنة، ولم يتحصل من رميه إلا نحو التقاوى وحصل للناس في هذه الأيام شدة بسبب ذلك، ثم بعد قليل وردت غلال وانحلت الأسعار وتواجدت الغلال بالسواحل والرقع.
وفي منتصفه، حضر رجل نصراني من جبل الدروز وتوصل إلى الباشا وعرفه أنه يحسن الصناعة بدار الضرب ويوفر عليه كثيراً من المصاريف وأنها بها نحو الخمسمائة صانع وأن يقوم بالعمل بأربعين شخصاً لا غير وأنه يصنع آلات وعدد الضرب القروش وغيرها ولا تحتاج إلى وقود نيران ولا كثير من العمل فصدق الباشا قوله وأمر بأن يفرد له مكان ويضم إليه ما يحتاجه من الرجال والحدادين والصناع ليعمل لصناعته العدد والآلات التي يحتاجه وشرع في أشغاله واستمر على ذلك شهوراً.
وفيه التفت الباشا إلى خدمة الضربخانة وأفنديتها وطمعت نفسه في مصادرتهم وأخذ الأموال لما يرى عليهم من التجمل في الملابس والمراكب لأن من طبعه داء الحسد والشره والطمع والتطلع لما في أيدي الناس وأرزاقهم فكان ينظر إليهم ويرمقهم وهم يغدون ويروحون إلى الضربخانة هم وأولادهم راكبون البغال والرهوانات المجملة وحولهم الخدم والأتباع فيسأل عنهم ويستخبر عن أحوالهم ودورهم ومصارفهم، وقد اتفق أنه رأى شخصاً خرج آخر الصناع وهو راكب رهواناً وحوله ثلاثة من الخدم فسأل عنه فقيل له أن هذا البواب الذي يغلق باب الضربخانة بعد خروج الناس منها ويفتحه لهم في الصباح فسأل عن مرتبه في كل يوم فعرفوه أن له في كل يومين قرشين لا غير فقال أن هذا المرتب له لا يكفي خدمه الذين هم حوله فكيف بمصرف داره وعليق دوابه وجميع لوازمه مما ينفقه ويحتاجه في تجملاته وملابسه وملابس أهله وعياله أن هؤلاء الناس كلهم سراق وكل ما هم فيه من السرقة والاختلاس ولا بد من إخراج الأموال التي اختلسوها وجمعوها وتناجى في ذلك مع العلم غالي وقرنائه، ثم طلب أولاً إسمعيل أفندي ليلاً وهو الأفندي الكبير وقال له عرفني خيانة فلان النصراني وفلان اليهودي المورد فقال لا أعلم على أحد منهم خيانة وهذا شيء يدخل بالميزان ويخرج بالميزان، ثم صرفه وأحضر النصراني وقال له عرفني بخيانة إسمعيل أفندي وأولاده والمداد إبراهيم أفندي الخضراوي الختام وغيره، فلم يزد على ما قاله إسمعيل أفندي، ثم أحضر الحاج سالم الجواهرجي وهدده، فلم يزد على قول الجماعة شيئاً فقال الجميع شركاء لبعضهم البعض ومتفقون على خيانتي، ثم أمر بحبس الحاج سالم وأحضر شخصاً آخر من الجواهرجية يسمى صالح الدنف وألبسه فروة وجعله في خدمة الحاج سالم، ثم ركب الباشا إلى بيت الأزبكية وطلب إسمعيل أفندي ليلاً هو وأولاده فأحضروهم بجماعة من العسكر في صورة هائلة وهددهم بالقتل وأمر بإحضار المشاعلي فأحضروه وأوقدوا المشاعل وسعت المتكلمون في العفو عنهم من القتل وقرروا عليهم مبلغاً عظيماً من الأكياس التزموا بدفعها خوفاً من القتل ففرضوا على الحاج سالم بمفرده سبعمائة وخمسين كيساً وعلى إبراهيم المداد مائتي كيس وعلى أحمد أفندي الوزان مائتي كيس وعلى أولاد الشيخ السحيمي مائتي كيس لأن لهم بها آلات ختم ووظائف يستغلون أجرتها وأخذ الجماعة في تحصيل ما فرض عليهم فشرعوا في بيع أمتعتهم وجهات إيرادهم ورهنوا وتداينوا بالربا وحولت عليهم الحوالات لطف الله بنا وبهم.

.شهر صفر الخير سنة 1227:

واستهل شهر صفر الخير بيوم الجمعة في سابعه يوم الخميس حضر السيد محمد المحروقي إلى مصر ووصل من طريق القصير، ثم ركب بحر النيل، ولم يحضر الشيخ المهدي بل تخلف عنه بقنا وقوص لبعض أغراضه.
وفيه ألبس الباشا صالح آغا السلحدار خلعة سر عسكر التجريدة المتوجهة على طريق البر إلى الحجاز، وكذلك ألبس باقي الكشاف.
وفي يوم الأحد عاشره، ورد قابجي وعلى يده مرسوم ببشارة مولود ولد للسلطان محمود وتسمى بمراد وصحبته أيضاً مقرر للباشا على ولاية مصر فضربوا مدافع وطلع إلى القلعة في موكب وقرئت المراسيم وعملوا شنكاً ومدافع تضرب في الأوقات الخمسة سبعة أيام من القلعة والأزبكية وبولاق والجيزة.

.شهر ربيع الأول سنة 1227:

في حضر إبراهيم بك ابن الباشا من الجهة القبلية.
وفي منتصفه، حضر أحمد آغا لاظ الذي كان أميراً بقنا وقوص وباقي الكشاف بعد أن راكوا جميع البلاد القبلية والأراضي وفوضوا عليها الأموال على كل فدان سبعة ريالات وهو شيء كثير جداً وأخصوا جميع الرزق الأحباسية المرصدة على المساجد والبر الصدقة بالصعيد ومصر فبلغت ستمائة ألف فدان وأشاعوا بأنهم يطلقون للمرصد على المساجد خاصة نصف المفروض وهو ثلاثة ريال ونصف فضجت أصحاب الرزق وحضر الكثير منهم يستغيثون بالمشايخ فركبوا إلى الباشا وتكلموا معه في شأن ذلك وقالوا له هذا يترتب عليه خراب المساجد فقال وأين المساجد العامرة الذي لم يرض بذلك يرفع يده وأنا أعمر المساجد المتخربة وأرتب لها ما يكفيها، ولم يفد كلامهم فائدة فنزلوا إلى بيوتهم.
وفي أواخره، انتقل السيد عمر مكرم النقيب من دمياط إلى طندتا وسكن بها.
وسبب ذلك أنه لما طالت إقامته بدمياط وهو ينتظر الفرج وقد أبطأ عليه وهو ينتقل من المكان الذي هو فيه إلى مكان آخر على شاطئ البحر وتشاغل بعمارة خان أنشأه هناك والحرس ملازمون له، فلم يزل حتى ورد عليه صديق أفندي قاضي العسكر فكلمه بأن يتشفع له عند الباشا في انتقاله إلى طندتا ففعل وأجاب الباشا إلى ذلك.

.شهر ربيع الآخر سنة 1227:

في رابعه الحجاج المغاربة ووصل أيضاً مولاي إبراهيم ابن السلطان سليمان سلطان الغرب وسبب تأخرهم إلى هذا الوقت أنهم أتوا من طريق الشام وهلك الكثير من فقرائهم المشاة وأخبروا أنهم قضوا مناسكهم وحجوا وزاروا المدينة وأكرمهم الوهابية إكراماً زائداً وذهبوا ورجعوا من غير طريق العسكر.
وفي عاشره، حضر تامر كاشف ومحو بك وعبد الله وهم الذين كانوا عند طوسون باشا، ثم حضروا في هذه الأيام باستدعاء الباشا وكان محو بك في مركب من مراكب الباشا الكبار التي أنشأها فانكسر على شعب وهلك من عسكره أشخاص ونجا هو بمن بقي معه وأخبروا عنه أنه كان أول من تقدم في البحر هو وحسين بك فقتل من عسكرهما الكثير من دون البقية الذين استعجلوا الفرار.
وفيه خرجت أوراق الفرضة على نسق العام الأول عن أربع سنوات مال وفائظ ومضاف وبراني ورزق وأوسية واستقر طلبها في دفعة واحدة ويؤخذ من أصل حسابها الغلال من الأجران بحساب ثمانية ريال كل أردب ويجمع غلال كل إقليم في نواحي عينوها لتساق إلى الإسكندرية وتباع على الإفرنج فشحت الغلال وغلا سعرها مع كون الفلاح لا يقدر على رفع غلته المتحصلة له من زراعة أرضه التي غرم عليها المغارم بطول السنة بل تؤخذ منه قهراً مع الإجحاف في الثمن والكيل بحيث يكال الأردب أردباً ونصفاً، ثم يلزمونه بأجرة حملها للمحل المعد لذلك ويلزم أيضاً بأجرة الكيال وعوائد المباشرين لذلك من الأعوان وخدمة الكشوفية وأجرة المعادي وبعض البلاد يطلق له الإذن بدفع المطلوب بالثمن والبعض النصف غلال والنصف الآخر دراهم حسب رسم المعلم غالي وأوامره وإذنه فإنه هو المرخص في الأمر والنهي فيبيع المأذون له غلته بأقصى قيمة بمرأى من المسكين الآخر الذي لم تسعده الأقدار وحضر الكثير من الفلاحين وازدحموا بباب المعلم غالي وتركوا بيادرهم وتعطلوا عن الدرس.
وفي ليلة الاثنين خامس عشره، ذهب الباشا إلى قصر شبرا وسافر تلك الليلة إلى ثغر الإسكندرية ورجع ابنه إبراهيم بك إلى الجهة القبلية وكذلك أحمد آغا لاظ لتحرير وقبض الأموال.
وفيه ورد الخبر بأن العسكر بقبلي ذهبوا خلف الأمراء القبليين الفارين إلى خلف ابريم وضيقوا عليهم الطرق وماتت خيولهم وجمالهم وتفرق عنهم خدمهم واضمحل حالهم وحضر عدة من مماليكهم وأجنادهم إلى ناحية أسوان بأمان من الأتراك فقبضوا عليهم وقتلوهم عن آخرهم وفعلوا قبل ذلك بغيرهم كذلك.
وفي أواخره سافر عدة من عسكر المغاربة إلى الينبع ووصل جملة كبيرة من عسكر الأروام إلى الإسكندرية فصرف عليهم الباشا علائف وحضروا إلى مصر، وانتظموا في سلك من بها ويعين منهم للسفر من يعين.
وفيه وقعت حادثة بخط الجامع الأزهر وهو أنه من مدة سابقة من قبل العام الماضي كان يقع بالخطة ونواحيها من الدور والحوانيت سرقات وضياع أمتعة وتكرر ذلك حتى ضج الناس وكثر لغطهم وضاع تخمينهم فمن قائل أنه مسترعيات يدخلون في نواحي السور ويتفرقون في الخطة ويفعلون ما يفعلون ومنهم من يقول إن ذلك فعل طائفة من العسكر الذين يقال لهم الحيطة في بلادهم إلى غير ذلك، ثم في تاريخه سرق من بيت امرأة رومية صندوق ومتاع فاتهمت أشخاصاً من العميان المجاورين بزاويتهم تجاه مدرسة الجوهرية الملاصقة للأزهر فقبض عليهم الآغا وقررهم فأنكروا وقالوا لسنا سارقين وإنما سمعنا فلاناً سموه وهو محمد ابن أبي القاسم الدرقاوي المغربي المنفصل عن مشيخة رواق المغاربة ومعه أخوته وآخرون ونعرفه بصوته وهم يتذاكرون في ذلك ونحن نسمعهم، فلما تحققوا ذلك وشاع بين الناس والأشياخ ذهب بعضهم إلى أبي القاسم وخاطبوه وكلموه سراً وخوفوه من العاقبة، وكان المذكور جعل نفسه مريضاً ومنقطعاً في داره فغالطهم فقالوا له، نحن قصدنا بخطابك التستر على أهل الخرقة المنتسبين إلى الأزهر في العمل بالشريعة وأخذ العلم، أو ما علمت ما قد جرى في العام السابق من حادثة الزغل وغير ذلك، فلم يزالوا به حتى وعدهم أنه يتكلم مع أولاده ويفحصون على ذلك بنباهتهم ونجابتهم.
وفي اليوم الثالث، وقيل الثاني أرسل أبو القاسم المذكور فأحضر السيد أحمد الذي يقال له جندي المطبخ وابن أخيه وهما اللذان يتعاطيان الحسبة والأحكام بخط الأزهر ويتكلمان على الباعة والخضرية والجزارين الكائنين بالخطة، فلما حضرا عنده عاهدهما وحلفهما بأن يسترا عليه وعلى أولاده ولا يفضحاهم ويبعدا عنهم هذه القضية وأخبرهما بأن ولده لم يزل يتفحص بفطانته حتى عرف السارق ووجد بعض الأمتعة، ثم فتح خزانة بمجلسه وأخرج منها أمتعة فسألوه عن الصندوق فقال هو باق عند من هو عنده ولا يمكن إحضاره في النهار فإذا كان آخر الليل انتظروا ولدى محمداً هذا عند جامع الفاكهاني بالعقادين الرومي وهو يأتيكم بالصندوق مع سارقه فاقبضوا عليه واتركوا أولادي ولا تذكروهم ولا تتعرضوا لهم فقالوا له كذلك وحضر الجندي وابن أخيه في الوقت الذي وعدهم به وصحبتهما أشخاص من أتباع الشرطة ووقفوا في انتظاره عند جامع الفاكهاني فحضر إليهم وصحبته شخص صرماتي فقالا لهم مكانكم حتى نأتيكم، ثم طلعا إلى ربع بعطفة الأنماطيين ورجعا في الحال بالصندوق حامله الصرماتي على رأسه فقبضوا على ذلك الصرماتي وأخذوه بالصندوق إلى بيت الآغا فعاقبوه بالضرب وهو يقول إنا لست وحدي وشركائي ابن أبي القاسم وأخواه وآخر يسمى شلاطة وابن عبد الرحيم الجميع خمسة أشخاص فذهب الآغا وأخبر كتخدا بك فأمره بطلب أولاد أبي القاسم فأرسل إليه ورقة بطلبهم فأجابه بأن أولاده حاضرون عنده بالأزهر من طلبة العلم وليسوا بسارقين فبالاختصار أخذهم الآغا أحضر ذلك الصرماتي معهم لأجل المحاققة، فلم يزل يذكر لابن أبي القاسم ما كانوا عليه سرحاتهم القديمة والجديدة ويقول له أما كنا كذا وكذا وفعلنا ما هو كذا في ليلة كذا واقتسمنا ما هو كذا وكذا ويقيم عليه أدلة وقرائن وأمارات ويقول له أنت رئيسنا وكبيرنا في ذلك كله ولا نمشي إلى ناحية ولا سرحة إلا بإشارتك فعند ذلك لم يسع ابن أبي القاسم الإنكار وأقر واعترف هو واخوته وحبسوا سوية وأما شلاطة ورفيقه فإنهما تغيبا وهربا واختفيا وشاعت القضية في المدينة وكثر القال والقيل في الأزهر ونواحيه وتذكروا قضية الدراهم الزغل التي ظهرت قبل تاريخه وتذكروا أقوالاً أخرى واجتمع كثير من الذين سرق لهم فمنهم رجل يبيع السمن أخذ من مخزنة عدة مواعين سمن وصينية الفطاطري التي يعمل عليها الكنافة وأمتعة وفروش وجدت في ثلاثة أماكن وخاتم ياقوت ذكروا أنه بيع بجملة دنانير وعقد لؤلؤ وغير ذلك واستمروا أياماً والناس يذهبون إلى الآغا ويذكرون ما سرق لهم ويسألهم فيقرون بأشياء دون أشياء ويذكرون ضياع أشياء فصرفوا فيها وباعوها وأكلوا بثمنها ثم اتفق الحال على المرافعة في المحكمة الكبيرة فذهبوا بالجميع واجتمع العالم الكثير من الناس وأصحاب السرقات وغيرهم نساء ورجالاً وادعوا على هؤلاء الأشخاص المقبوض عليهم فأحضروا بعض ما ادعوا به عليهم وقالوا أخذنا ولم يقولوا سرقنا وبراً محمد بن أبي القاسم أخويه وقال أنهما لم يكونا معنا في شيء من هذا وحصل الاختلاف في ثبوت القطع بلفظ أخذنا وقد حضرت دعوى أخرى مثل هذه على رجل صباغ ثم أن القاضي كتب أعلاماً للكتخدا بك بصورة الواقع وفوض الأمر إليه فأمر بهم إلى بولاق وأنزلوهم عند القبطان وصحبتهم أبوهم أبو القاسم فأقاموا أياماً ثم إن كتخدا بك أمر بقطع أيدي الثلاثة وهم محمد بن أبي القاسم الدرقاوي ورفيقة الصرماني والصباغ الذي ثبتت عليه السرقة في الحادثة الأخرى فقطعوا أيدي الثلاثة في بيت القبطان ثم أنزلوهم في مركب وصحبتهم أبوهم أبو القاسم وولداه الآخران اللذان لم تقطع أيديهما وسفروهم إلى الإسكندرية وذلك في منتصف شهر جمادى الأولى من السنة.

.شهر جمادى الثانية سنة 1227:

واستهل شهر جمادى الثانية بيوم الخميس، فيه حضر الثلاثة أشخاص المقطوعين الأيدي وذلك أنهم لما وصلوا إلى الإسكندرية وكان الباشا هناك تشفع فيهم المتشفعون عنده قائلين أنه جرى عليهم الحد بالقطع فلا حاجة إلى نفيهم وتغريبهم فأمر بنفي أبي القاسم وولديه الصغيرين إلى أبي قير ورجع ولده الآخر مع رفيقه الصرماتي والصباغ إلى مصر فحضروا إليها وذهبوا إلى دورهم وأما ابن أبي القاسم فذهب إلى داره وسلم على والدته ونزل إلى السوق يطوف على أصحابه ويسلم عليهم وهو يتألم مما حصل في نفسه ولا يظهر ذلك لشدة وقاحته وجمودة صدغه وغلاظة وجهه بل يظهر التجلد وعدم المبالاة بما وقع له من النكل وكسوف البال ومر في السوق والأطفال حوله وخلفه وأمامه يتفرجون عليه ويقولون انظروا الحرامي وهو لا يبالي بهم ولا يلتفت إليهم حتى قيل أنه ذهب إلى مسجد خرب بالباطنية ودعا إليه غلاماً يهواه بناحية الدرب الأحمر فجلس معه حصة من النهار ثم فارقه وذهب إلى داره واشتد به الألم لأن الذي باشر قطع يده لم يحسن القطع فمات في اليوم الثالث.
وفي هذا الشهر، وما قبله وردت عساكر كثيرة من الأتراك وعينوا للسفر وخرجوا إلى مخيم العرضي خارج بأبي النصر والفتوح فكانوا يخرجون مساء ويدخلون في الصباح ويقع منهم ما يقع من أخذ الدواب وخطف بعض النساء والأولاد كعادتهم.
وفي ليلة الخميس، ثاني عشرينه حضر الباشا من الإسكندرية ليلاً وصحبته حسن باشا إلى القصر بشبرا وطلع في صبحها إلى القلعة وضربوا لقدومه مدافع من الأبراج فكان مدة غيبته في هذه المدة شهرين وسبعة أيام واجتهد فيها في عمارة سور المدينة وأبراجها وحصنها تحصيناً عظيماً وجعل بها جبانات وباروداً ومدافع وآلات حرب ولم تزل العمارة مستمرة بعد خروجه منها على الرسم الذي رسمه لهم وأخذ جميع ما ورد عليه من مراكب التجار من البضائع على ذمته ثم باعه للمتسببين بما أحب من الثمن وورد من ناحية بلاد الإفرنج كثير من البن الإفرنجي وحبه أخضر وجرمه أكبر من حب البن اليمني الذي يأتي إلى مصر في مراكب الحجاز أخذه في جملة ما أخذ في معاوضة الغلال ورماه على باعة البن بمصر بثلاثة وعشرين فرانسة القنطار والتجار يبيعونه بالزيادة ويخلطونه مع البن اليمني وفي ابتداء وروده كان يباع رخيصاً لأنه دون البن اليمني في الطعم واللذة في شربه وتعاطيه وبينهما فرق ظاهر يدركه صاحب الكيف البتة.
وفيه وصل، مرسوم صحبة قابجي من الديار الرومية مضمونه وكالة دار السعادة باسم كتخدا بك وعزل عثمان آغا الوكيل تابع سعيد آغا فعمل الباشا ديواناً يوم الأحد وقرئ المرسوم وخلع على كتخدا بك خلعة الوكالة وخلعة أخرى باستمراره في الكتخدائية على عادته وركب في مركب إلى داره فلما استقر في ذلك أرسل في ثاني يوم فأحضر الكتبة من بيت عثمان آغا وأمرهم بعمل حسابه من ابتداء سنة 1221 لغاية تاريخه فشرعوا في ذلك وأصبح عثمان آغا المذكور مسلوب النعمة بالنسبة لما كان فيه ويطالب بما دخل في طرفه وانتزعت منه بلاد الوكالة وتعلقات الحرمين وأوقافهما وغير ذلك.
وفي يوم الخميس غايته، وصل صالح قوج ومحو بك وسليمان آغا وخليل آغا من ناحية الينبع على طريق القصير من الجهة القبلية وذهبوا إلى دورهم.

.شهر رجب سنة 1227:

واستهل شهر رجب بيوم الجمعة في ثالثه طلع الجماعة الواصلون إلى القلعة وسلموا على الباشا وخاطره منحرف منهم ومتكدر عليهم لأنه طلبهم للحضور مجردين بدون عساكرهم ليتشاور معهم فحضروا بجملة عساكرهم وقد كان ثبت عنده أنهم هم الذين كانوا سبباً للهزيمة لمخالفتهم على ابنه واضطرب رأيهم وتقصيرهم في نفقات العساكر ومبادرتهم للهرب والهزيمة عند اللقاء ونزولهم بخاصتهم إلى المراكب وما حصل بينهم وبين ابنه طوسون باشا من المكالمات فلم يزالوا مقيمين في بيوتهم ببولاق ومصر والأمر بينهم وبين الباشا على السكوت نحو العشرين يوماً وأمرهم في ارتجاج واضطراب وعساكرهم مجتمعة حولهم ثم إن الباشا أمر بقطع خرجهم وعلائفهم فعند ذلك تحققوا منه المقاطعة.
وفي رابع عشرينه، أرسل إليهم علائفهم المنكسرة وقدرها ألف وثمانمائة كيس جميعها ريالات فرانسة وأمر بحملها على الجمال ووجه إليهم بالسفر فشرعوا في بيع بلادهم وتعلقاتهم وضاق ذرعهم وندر طبعهم إلى الغاية وعسر عليهم مفارقة أرض مصر وما صاروا فيه من التنعم والرفاهية والسيادة والأمارة والتصرف في الأحكام والمساكن العظيمة والزوجات السراري والخدم والعبيد والجواري فإن لأقل منهم له البيتان والثلاثة من بيوت الأمراء ونسائهم اللاتي قتلت أزواجهن على أيديهم وظنوا أن البلاد صفت لهم حتى أن النساء المترفهات ذوات البيوت والإيرادات والالتزامات صرن يعرضن أنفسهن عليهم ليحتمين فيهم بعد أن كن يعفنهم ويأنفن من ذكرهم فضلاً عن قربهم.
وفيه، ورد آغا قابجي من دار السلطنة وعلى يده مرسوم بالبشارة بمولود ولد للسلطان فعملوا ديواناً يوم الأحد رابع عشرينه وطلع الآغا المذكور في موكب إلى القلعة وقرئ ذلك المرسوم وصحبته الأمراء وضربوا شنكاً ومدافع واستمروا على ذلك ثلاثة أيام في وقت كل أذان كأيام الأعياد.
وفي يوم الثلاثاء، مات أحمد بك وهو من عظماء الأرنؤد وأركانهم وكان عندما بلغه قطع خرج المذكورين أرسل إلى الباشا يقول له اقطع خرجي وأعطني علوفة عساكري وأسافر مع إخواني فمنعه الباشا وأظهر الرأفة به فتغير طبعه وزاد قهره وتمرض جسمه فأرسل إليه الباشا حكيمه فسقاه شربه وفصده فمات من ليلته فخرجوا من جنازته من بولاق ودفنوه بالقرافة الصغرى وخرج أمامه صالح آغا وسليمان آغا وطاهر آغا وهم راكبون أمامه وطوائف الأرنؤد عدد كبير مشاة حوله.